في ظل تصاعد أزمات الغذاء والطاقة، واستمرار التحديات المناخية والاقتصادية، التي تفرض تحديات متلاحقة على كثير من دول العالم، أصبح التحول الصناعي المستدام ضرورة ملحة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز العمل المناخي، وهذا ما أكدت عليه تقارير دولية حديثة، شددت على أهمية تسريع هذا التحول، لسد الفجوة التنموية بين الدول المتقدمة والنامية، ومواصلة العمل على مسارات مختلفة، لإعادة بناء منظومات الإنتاج والاستهلاك المستدامين.
وفق تقرير «تمويل التنمية المستدامة: تمويل التحول المستدام»، الصادر عن الأمم المتحدة، يتطلب التحول الصناعي استثمارات ضخمة وعاجلة تشمل قطاعات رئيسية مثل الكهرباء، الصناعة، الزراعة، النقل، والمباني، وشدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في مقدمة التقرير على أن البلدان النامية تعاني من نقص الموارد اللازمة للاستثمار في التنمية المستدامة، مما يفاقم الفجوة مع الدول المتقدمة.
تحديات تواجه الدول النامية
واعتبر غوتيريش أن «العالم المكون من مسارين، أحدهما يملك الموارد، والآخر يفتقر إليها، يمثل خطراً على مستقبل البشرية»، مما يؤكد الحاجة إلى إعادة بناء التعاون الدولي، وتعزيز العمل متعدد الأطراف، لإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والمناخية.
أظهر التقرير إلى أن أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حفزت استثمارات قياسية في تحول قطاع الطاقة العالمي، التي بلغت 1.1 تريليون دولار في عام 2022، ولأول مرة، تجاوزت استثمارات تحويل الطاقة الاستثمارات في الوقود الأحفوري، ومع ذلك، تمركزت هذه الاستثمارات بشكل كبير في الصين والدول المتقدمة، بينما لم تستفد معظم الدول النامية، بسبب نقص الموارد.
وتواجه الدول النامية ضغوطًا مالية كبيرة، نتيجة التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية، إضافة إلى تأثيرات العمليات العسكرية في أوكرانيا، وتداعيات جائحة «كوفيد-19»، التي مازالت تلقي بظلالها على العديد من دول العالم، الأمر الذي أدى إلى زيادة مدفوعات الديون، لتصبح ضعف ما كانت عليه في عام 2019، مما يقلل من قدرتها على الاستثمار في التحول المستدام.
إصلاح النظام المالي العالمي
على سبيل المثال، بلغ متوسط الإنفاق على التعافي من جائحة «كوفيد-19»، في غالبية الدول المتقدمة، حوالي 12 ألف و200 دولار للفرد على مدار عامي 2020 و2021، مقارنةً بنحو 410 دولارات فقط للفرد في معظم الدول النامية، بينما لم يتجاوز 20 دولاراً فقط في الدول الأقل نمواً، ويعتبر تقرير تمويل التنمية المستدامة أن هذا التفاوت يبرز الحاجة إلى إصلاح النظام المالي العالمي.
وفي هذا السياق، أكدت أمينة محمد، نائب الأمين العام للأمم المتحدة، أن التقدم على المسار الصحيح لتحقيق أجندة التنمية المستدامة، يتطلب إصلاح النظام المالي العالمي، وزيادة الاستثمارات في أهداف التنمية المستدامة، وتعتبر أن «العالم يعرف الآن ما يتعين عمله وكيفية ذلك»، ودعت المسؤولة الأممية إلى تسريع وتيرة العمل لتحقيق تحول صناعي ورقمي أخضر جديد.
التصنيع المستدام كوسيلة للتقدم
وبينما أكد تقرير «تمويل التنمية المستدامة» أن التصنيع كان على مر التاريخ محركاً للتنمية الاقتصادية، وصاحب النصيب الأكبر في توفير فرص للعمل، فقد دعا العديد من الخبراء ومنظمات المجتمع المدني إلى تبني سياسات صناعية مستدامة، مدعومة بالتخطيط الوطني المتكامل، لتوسيع نطاق الاستثمارات، وتحقيق التحولات المطلوبة، خاصةً وأن التقرير الأممي أظهر أن القدرة التصنيعية لا تزال متفاوتة بشكل كبير بين الدول، ففي أقل الدول نمواً، خاصةً في أفريقيا، انخفضت القيمة المضافة للصناعات التحويلية بدلاً من أن تتضاعف، وهو ما كان مستهدفاً وفقاً لأهداف التنمية المستدامة.
ويتطلب التحول الصناعي المستدام وضع سياسات لبناء القدرات الإنتاجية المحلية، وتحقيق التحول منخفض الكربون، وتوفير وظائف لائقة، وتعزيز النمو الاقتصادي، مع ضمان المساواة بين الجنسين، ولفت التقرير، في هذا الصدد، إلى أهمية تعزيز الأنظمة الضريبية، وتحفيز الاستثمار الخاص، وتوسيع نطاق الاستثمارات الدولية في إحداث التحولات المنشودة.
تحذيرات من نتائج سلبية
وأكد تقرير «تمويل التنمية المستدامة» أن تحقيق الأهداف التنموية العالمية يتطلب تغييرات جذرية في النظام المالي العالمي، بما يشمل تحسين الوصول إلى التمويل للدول النامية وتعزيز التعاون الدولي، في الوقت الذي حذر فيه من أن أي إصلاح جزئي، أو غير مكتمل، قد يؤدي إلى نتائج سلبية، وفي هذا الصدد، قال لي جونهوا، وكيل الأمين العام للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إن هناك بعض الحلول لتجنب فجوة تنموية دائمة، ومنع فقدان عقد من التنمية، لكنه شدد على ضرورة وجود إرادة سياسية للتغلب على التوترات الدولية والانقسامات القومية، واستثمار الفرص المتاحة لبناء مستقبل مشترك.
وتضمن التقرير مجموعة من التوصيات لسد الفجوات المتزايدة على مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، في ظل التحول للعصر الصناعي الأخضر الجديد، تتضمن تعزيز التعاون الدولي، وبناء شراكات عالمية فعّالة لمواجهة التحديات المشتركة، إضافة إلى إصلاح النظام المالي العالمي، من خلال تبني سياسات تمويل مرنة وشاملة تحقق العدالة الاقتصادية، ودعم الدول النامية عبر توفير الموارد والخبرات اللازمة لتحفيز النمو المستدام، بالإضافة إلى تشجيع وزيادة الاستثمار في التقنيات النظيفة والطاقة المتجددة، لتقليل الانبعاثات وتعزيز الاقتصاد الأخضر.
وبحسب الخبراء، يمثل العصر الصناعي الأخضر فرصة ذهبية لسد الفجوة التنموية، وتحقيق مستقبل مستدام للجميع، ومع وجود خطط واضحة وحلول مجربة، يبقى التحدي الأكبر هو توفير الإرادة السياسية، والموارد المالية لتحقيق هذا التحول، خاصةً وأن العالم يقف أمام خيار حاسم، إما التعاون والعمل الجماعي لتحقيق التنمية المستدامة، أو مواجهة مستقبل مليء بالتحديات والتوترات.