بينما أصبح التحول الرقمي أحد المحاور الرئيسية للتطور التكنولوجي، في ظل الدور المتزايد للتكنولوجيا الرقمية في تعزيز كفاءة الأداء، وتحسين نوعية الحياة، إلا أن التأثيرات البيئية الناجمة عن هذا النوع من التكنولوجيا لا يمكن إغفالها، ففي الوقت الذي تسهم فيه الابتكارات الرقمية في تطوير صناعات جديدة، وتسهيل عمليات الإنتاج اليومية، فإنها تستهلك أيضاً كميات هائلة من الطاقة، كما ينتج عنها نفايات إلكترونية تؤثر بشكل مباشر على النظم البيئية.

لإلقاء الضوء على التأثيرات البيئية الناجمة عن التحول الرقمي، أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لرئاسة مجلس الوزراء في مصر، تقريراً جديداً يتضمن تحليلاً حول أهمية التحول الرقمي، والآثار البيئية الناتجة عنه، بالإضافة إلى التقنيات اللازمة للحد من الأثر البيئي للتحول الرقمي، في ظل ما يشهده العصر الراهن من تحولات هائلة في كيفية إنتاج وتبادل واستهلاك المعلومات والموارد من خلال التقنيات الرقمية، حيث أصبح للبيانات دور محوري، كما تُساهم التقنيات مثل الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية في تغيير كل مناحي الحياة اليومية.

أشار تقرير مركز المعلومات إلى أنه على مدار العقدين الماضيين، أدى التحول الرقمي إلى إيجاد فرص جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن دوره غير المباشر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ إذ تساهم التكنولوجيات الرقمية بشكل مباشر في تحقيق 70% من مقاصد أهداف التنمية المستدامة، وفي هذا الإطار يشير مصطلح «التحول الرقمي» إلى استخدام تكنولوجيا الحاسب الآلي والإنترنت في عملية إضافة قيمة اقتصادية أكثر كفاءة وفعالية.

ولفت التقرير إلى الدور المحوري الذي أداه الإنترنت في تعزيز التحول الرقمي، إذ ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت من مليار نسمة في عام 2005، إلى 5.4 مليارات نسمة في عام 2023، وخلال الفترة بين عامي 2010 و2023، تضاعفت تقديرات الشحنات السنوية للهواتف الذكية من 500 مليون وحدة، إلى حوالي 1.2 مليار وحدة، كما تضاعف عدد وحدات أشباه الموصلات المباعة أربع مرات خلال الفترة من عام 2001 إلى عام 2022، كما توفر البنية الأساسية للشبكات، بما في ذلك الكابلات البحرية وأقمار الاتصالات، طرقًا أسرع من أي وقت مضى، لربط المزيد من الأفراد والآلات.

ومن المتوقع أن ترتفع نسبة تغطية النطاق العريض المحمول من الجيل الخامس (G5)، من 25% في عام 2021، إلى 85% في عام 2028، حيث تتيح سرعات الاتصال الأعلى توليد المزيد من البيانات وجمعها وتخزينها وتحليلها، وهذا أمر أساسي للتكنولوجيات الناشئة، مثل تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء.

وأضاف مركز المعلومات، في تقريره، أنه على الرغم من الدور المهم الذي يلعبه التحول الرقمي في تحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين تقديم الخدمات، إلا أن هناك تأثيرات بيئية هائلة في المقابل، تتمثل في استنفاد المواد الخام المحدودة للتكنولوجيات الرقمية ومنخفضة الكربون، وتصاعد استهلاك المياه والطاقة، وتزايد مشكلة النفايات المرتبطة بالرقمنة، لذا أصبح من الأهمية بمكان ربط التحول الرقمي بالاستدامة البيئية.

واستعرض التقرير مجموعة من العوامل التي يتطلبها تحليل التأثير البيئي للاقتصاد الرقمي وهي:

أولاً: استهلاك الطاقة الناجم عن مراكز البيانات

حيث تُعَد مراكز البيانات من أكبر مصادر استهلاك الطاقة في الاقتصاد الرقمي، فقد بلغ حجم سوق الطاقة لمراكز البيانات نحو 24.41 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 33.44 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2029، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 6.5% خلال الفترة المتوقعة  بين 2024 و2029، كما تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2022 بلغ استهلاك الكهرباء عالمياً نحو 27 ألف تيراوات/ ساعة، وسجلت الصين والولايات المتحدة الأمريكية أعلى طلب على الكهرباء، نتيجة لزيادة الاعتماد على مراكز البيانات.

وذكر مركز المعلومات أنه وفقاً للوكالة الدولية للطاقة، فإن تقدير استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات العالمية في عام 2022، تراوح بين 240 و340 تيراوات/ساعة، أو حوالي من 1% إلى 1.3% من الطلب العالمي النهائي على الكهرباء، وذلك لا يشمل الطاقة المستخدمة في تعدين العملات المشفرة، والتي قدرت بحوالي 110 تيراوات/ساعة في عام 2022، وهو ما يمثل 0.4% من الطلب العالمي السنوي على الكهرباء.

وأظهر التقرير أنه منذ عام 2010، نما استخدام الطاقة في مراكز البيانات، باستثناء العملات المشفرة، بشكل متوسط، وذلك على الرغم من النمو القوي في الطلب على خدمات مراكز البيانات، ويرجع ذلك جزئياً إلى التحسن في كفاءة أجهزة ومعدات تكنولوجيا المعلومات، والتحول من مراكز البيانات الصغيرة غير الفعالة إلى مراكز بيانات سحابية ضخمة ذات كفاءة أعلى.

وعلى الرغم من المكاسب الناتجة عن تحسن الكفاءة في مراكز البيانات، فقد أدى النمو السريع في أحمال العمل، التي تتعامل معها مراكز البيانات الكبيرة، إلى زيادة كبيرة في استخدام الطاقة في هذا القطاع على مدار السنوات الماضية، والذي نما بنسبة تتراوح بين 20 و40% سنوياً، وتضاعف إجمالي استخدام الكهرباء من قبل شركات أمازون ومايكروسوفت وجوجل وميتا بأكثر من الضعف بين عامي 2017 و2021، ليرتفع إلى حوالي 72 تيراوات/ ساعة في عام 2021.

وأشار التقرير إلى أن استهلاك الكهرباء في بعض الدول شهد زيادة كبيرة، نتيجة للتوسع في أسواق مراكز بيانات، فعلى سبيل المثال، تضاعف استخدام الكهرباء في مراكز البيانات في أيرلندا بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2015، ليمثل 18% من إجمالي استهلاك الكهرباء في عام 2022، وقد يصل استهلاك مراكز البيانات ومستخدمي الطاقة الآخرين إلى نحو 28% من الطلب الوطني على الكهرباء بحلول عام 2031، بينما في الدنمارك، من المتوقع أن يرتفع استخدام الطاقة في مراكز البيانات بمقدار ستة أضعاف بحلول عام 2030 ليمثل ما يقرب من 15% من استخدام الكهرباء في البلاد.

ثانياً: تقنية «البلوك تشين»

تُعَد هذه التقنية من أكبر سبل استهلاك الطاقة ومولدات النفايات المرتبطة بالرقمنة، وتستخدم تقنية «البلوك تشين» الطاقة للتحقق من صحة المعاملات، وتعدين العملات المشفرة باستخدام الدوائر المتكاملة المخصصة للتطبيقات، حيث يتم وضع هذه الأجهزة في مرافق تعمل كمراكز بيانات فعلياً، كما إن إدراج تقنية «البلوك تشين» ضمن مقاييس استخدام الطاقة في مراكز البيانات يزيد بشكل كبير من إجمالي استخدام الطاقة، فقد نما استخدام الطاقة بشكل خاص بسبب أنشطة «البلوك تشين» بنسبة تتراوح بين 2000% و3500% بين عامي 2015 و2022، في حين نما استخدام الطاقة في مراكز البيانات الأخرى بنسبة تتراوح بين 20% و70%.

وتتركز البصمة البيئية للعملات المشفرة في عدد قليل من الدول التي تشهد معظم أنشطة تعدين العملات المشفرة، وفي ظل القيود التي فرضتها الصين على أنشطة تعدين العملات المشفرة، في مايو 2021، تحولت أنشطة التعدين إلى مناطق أخرى كثيفة الاعتماد على الوقود الأحفوري، مثل كازاخستان، التي تستضيف ما يقرب من سدس عمليات تعدين العملات المشفرة العالمية، والتي تصحبها كثافة مرتفعة للغاية في استخدام المياه لتوليد الكهرباء، وقد أدى تأثير إعادة التوزيع الجغرافي لعمليات تعدين العملات المشفرة إلى زيادة استهلاك المياه المرتبط بهذه الأنشطة عالمياً بنحو 73%، ولكنه أدى إلى انخفاض بنسبة 10% في انبعاثات غازات الدفيئة.

ثالثاً: التخلص من النفايات

تشمل المخلفات الإلكترونية جميع بنود المعدات الكهربائية والإلكترونية وأجزائها التي تم التخلص منها من قِبل مالكيها، دون وجود نية في إعادة استعمالها، وتشمل أي جهاز منزلي أو تجاري يتضمن مكونات كهربائية تعمل بالكهرباء أو بالبطارية، وقد بلغ كمية المخلفات الإلكترونية التي تم توليدها في عام 2022، نحو 62 مليار كيلوجرام، منها 13.8 مليار كيلوجرام تم جمعها وإعادة تدويرها رسمياً بطريقة سليمة بيئياً، و16 مليار كيلوجرام تم جمعها وإعادة تدويرها خارج الأنظمة الرسمية في دول لديها بنية تحتية متطورة لإدارة المخلفات الإلكترونية، و18 مليار كيلوجرام تمت معالجتها في دول لا تمتلك بنية تحتية متطورة لإدارة النفايات الإلكترونية، ومعظمها تتم من قبل القطاع غير الرسمي، و14 مليار كيلوجرام من النفايات الإلكترونية تم التخلص منها في مكبات النفايات على مستوى العالم.

وأشار تقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار إلى أنه على الرغم من الفوائد الاقتصادية الناجمة عن إدارة النفايات الإلكترونية، مثل استعادة المعادن، فإنه يقابلها تكاليف مرتفعة، مثل معالجة النفايات الإلكترونية، والتكاليف الخارجية غير المباشرة على المجتمع، وتقدر التكلفة النقدية الاقتصادية السنوية الإجمالية لإدارة النفايات الإلكترونية على مستوى العالم، بنحو 37 مليار دولار أمريكي.

رابعاً: استخدام المياه في تبريد مراكز البيانات

يرتبط استهلاك المياه بشكل أساسي بتبريد مراكز البيانات، وتعتمد «البصمة المائية» لمراكز البيانات، والتي يُقصد بها الأثر البيئي لاستخدام المياه في تبريد مراكز البيانات، بشكل كبير على المناخ، وتوافر الموارد في موقع مركز البيانات، فعلى سبيل المثال، يمكن الاعتماد في المناطق الأكثر برودة، مثل شمال أوروبا، على تبريد الهواء في معظم العام، وبالتالي تقليل الحاجة إلى استهلاك المياه، أما فيما يتعلق بالمناطق الحارة، مثل إفريقيا وجنوب شرق آسيا، فيُعد تقليل استهلاك المياه للتبريد عملية صعبة للغاية.

وأوضح التقرير أنه نظراً للتوسع المتوقع لمراكز البيانات في هذه المناطق لدعم نمو الاقتصاد الرقمي، ولأسباب تتعلق بسيادة البيانات، فإن الطلب على المياه قد يزيد من صعوبة الإدارة الفعالة لموارد المياه النادرة، وفي السنوات الأخيرة، أدت التحسينات في تقنيات التبريد، جنباً إلى جنب مع زيادة قدرة بعض معدات تكنولوجيا المعلومات على تحمل درجات الحرارة، إلى تقليل الاعتماد على تقنيات التبريد القائمة على المياه، وأتاحت مزيداً من الخيارات لتبريد مراكز البيانات، خاصة الكبيرة منها، وبالتزامن مع هذه التطورات، يتم استكشاف مصادر بديلة للمياه، مثل مياه الصرف الصحي المعالج، ومياه البحر، لتلبية الطلب المرتفع على المياه في مراكز البيانات.

ولفت التقرير إلى أن بصفة عامة، فإن تأثير قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على استخدام المياه غالباً ما يتم تجاهله، وهناك حاجة إلى معلومات أكثر شفافية وموثوقية حول هذا الموضوع، إذ إن استخدام المياه في جميع مراحل دورة حياة التحول الرقمي، يمكن أن يؤثر بشدة على التنوع البيولوجي المحلي، وسبل العيش، وعلى نحو مماثل، فإن التعدين، وهو مكون لا يتجزأ من مرحلة الإنتاج في التحول الرقمي، يتطلب كميات كبيرة من المياه، وهو ما يؤدي إلى المنافسة على موارد المياه بين عمليات التعدين والزراعة والاحتياجات المعيشية للأسر، وعلى نحو مماثل أيضاً، يتطلب إنتاج أشباه الموصلات كميات كبيرة من المياه شديدة النقاء، وتستهلك مراكز البيانات الكثير من المياه بشكل غير مباشر، لتوليد الكهرباء، وبشكل مباشر، لتبريد الخوادم، ويمكن أن ينتج تلوث المياه في المراحل النهائية من دورة حياة التحول الرقمي، عندما تتسرب الملوثات من المكونات الإلكترونية إلى المياه الجوفية، بسبب التخلص غير السليم من النفايات الإلكترونية، ويمكن أن يؤثر هذا النوع من التلوث سلباً على التنوع البيولوجي والصحة البشرية.

كما أشار التقرير إلى أن قطاعات الطاقة والمواد التعدينية والنقل تعتبر من أكثر القطاعات التي ينتج عنها انبعاثات، حيث تساهم هذه القطاعات بنسبة 34% و21% و19% من إجمالي الانبعاثات على التوالي عام 2020، وفي المقابل، تتمثل القطاعات التي تتمتع فيها التقنيات الرقمية بأعلى إمكانات للحد من الانبعاثات في أربع مجموعات من التقنيات الرقمية عالية التأثير، وهي:

  • تقنيات صنع القرار التي تعزز الذكاء البشري.
  • تقنيات الاستشعار والتحكم التي تجمع البيانات وتعدل من العمليات المادية لتصبح أكثر استدامة.
  • التقنيات التمكينية التي تُعَد أساس أي عمل رقمي يهدف لتحقيق الفوائد في عصرنا الحالي.
  • التقنيات التأسيسية الموجودة ضمن العمليات الحالية.

وأوضح تقرير مركز المعلومات أنه بالإشارة إلى قطاع الطاقة، فإنه يُمكن أن يُحقق ما يصل إلى 8% من تخفيضات غازات الدفيئة بحلول عام 2050، ويمكن أن يتم ذلك من خلال تعزيز الكفاءة في العمليات كثيفة الكربون، وتعزيز كفاءة الطاقة في المباني، فضلًا عن نشر وإدارة الطاقة المتجددة باستخدام الذكاء الاصطناعي المدعوم بالحوسبة السحابية، والمرافق التي تعتمد بشكل كبير على شبكات الجيل الخامس.

وفي قطاع المواد المعدنية، يمكن أن توفر عمليات الاستخدام الرقمية ما يصل إلى 7% من تخفيضات غازات الدفيئة بحلول عام 2050، ويمكن أن يحدث هذا من خلال تحسين التعدين والإنتاج الأولي، والاعتماد على التقنيات الأساسية، مثل تحليلات البيانات الضخمة والحوسبة السحابية.

وفي مجال النقل، يمكن لعمليات الاستخدام الرقمية أن تخفض ما يصل إلى 5% من انبعاثات غازات الدفيئة بحلول عام 2050، وذلك من خلال الاستفادة من تقنيات الاستشعار عن بُعد، مثل إنترنت الأشياء، والتصوير، وتحديد الموقع الجغرافي لجمع البيانات في الوقت الفعلي.

وأوضح مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، في ختام تقريره، أن العصر الراهن يتميز بالابتكار والتقدم الذي يشكل فرصاً وتحديات في آن واحد، فمن جهة، يوفر التحول الرقمي أدوات وتقنيات تعزز من الكفاءة الاقتصادية، وتفتح آفاقاً جديدة للنمو والابتكار، ومن جهة أخرى، يتطلب هذا التقدم استجابة متوازنة للتحديات البيئية المرتبطة به، كما أصبح من الضروري العمل على دمج الاستدامة البيئية في استراتيجيات التحول الرقمي، وذلك من خلال استكشاف حلول تكنولوجية خضراء، وتعزيز الممارسات التي تقلل من البصمة البيئية للتكنولوجيا، بالإضافة إلى تبني تقنيات صديقة للبيئة، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، ودعم المبادرات البيئية، بحيث يتم تحقيق التوازن بين التقدم الرقمي والحفاظ على البيئة.