في مشهد يزداد قتامة، تتقاطع أزمات التربة والغابات وفقدان التنوع البيولوجي مع ظاهرة الاحتباس الحراري لتكشف عن حقيقة صادمة: الإنسان لم يعد مجرد متأثر بتغير المناخ، بل بات أحد مهندسيه الرئيسيين، هذا ما يحذر منه تقرير أممي حديث، يكشف أن التدهور الواسع الذي ألحقته الأنشطة البشرية بالنظم البيئية الطبيعية أطلق «حلقة مفرغة» معقدة، تتغذى فيها أزمة المناخ على تدمير الطبيعة، فيما يعمّق تغير المناخ بدوره هذا التدمير، دافعًا الكوكب نحو مسار بالغ الخطورة.
التقرير، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة ضمن «التوقعات البيئية العالمية – الإصدار السابع» (GEO-7)، يؤكد أن فقدان التنوع البيولوجي وتدهور الأراضي لم يعودا مجرد نتائج جانبية لتغير المناخ، بل تحولا إلى عوامل رئيسية تُسرّع وتيرة الاحترار العالمي، من خلال الإخلال بدورات الكربون والنيتروجين والمياه، وهي أنظمة دقيقة تشكل العمود الفقري لاستقرار المناخ على كوكب الأرض.
ويوضح التقرير أن إزالة الغابات، وتغير استخدامات الأراضي، واستنزاف التربة، أدت إلى إضعاف قدرة الطبيعة على امتصاص الكربون، وهو ما ينعكس مباشرة على تركيزات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، ورغم أن بعض النظم البيئية أظهرت استجابات تكيفية محدودة، مثل زيادة كفاءة استخدام المياه في بعض الغابات الشمالية نتيجة ارتفاع ثاني أكسيد الكربون، فإن هذه الاستجابات تظل غير متوازنة ولا يمكن التعويل عليها كحل طويل الأمد، في ظل الضغوط المتزايدة التي يتعرض لها النظام البيئي العالمي.
يرصد التقرير تباينًا حادًا في قدرة النظم البيئية على مواجهة الإجهاد المناخي، حيث تتفاعل الغابات والتربة والمناطق الرطبة بطرق مختلفة مع موجات الحر والجفاف والتلوث، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية. وعلى الرغم من استقرار نسبي في صافي الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهور الأراضي خلال العقدين الماضيين، فإن المؤشرات القادمة من مناطق حيوية مثل غابات الأمازون تثير قلقًا بالغًا بشأن مستقبل «مصارف الكربون» الطبيعية.
فغابات الأمازون، التي لطالما وُصفت بأنها «رئة الأرض»، تُظهر اليوم علامات واضحة على فقدان هذا الدور الحيوي، ووفقًا للتقرير، فإن مزيجًا من إزالة الغابات وارتفاع درجات الحرارة وتزايد الإجهاد المائي، خاصة في الأجزاء الشرقية من الأمازون خلال موسم الجفاف، أدى إلى تراجع قدرتها على امتصاص الكربون. ويقدّر التقرير أن ما بين 10 و47% من غابات الأمازون باتت معرضة لمخاطر متداخلة تشمل موجات الجفاف الشديدة وحرائق الغابات، وهي عوامل قد تدفع النظام البيئي إلى تجاوز «نقاط تحول» حرجة تؤدي إلى تغيرات لا يمكن عكسها، مع تداعيات خطيرة على المناخ الإقليمي والعالمي.
ولا تقف الأزمة عند حدود الأمازون، إذ يشير التقرير إلى أن مناطق أخرى من العالم بدأت تفقد قدرتها على العمل كمصارف للكربون، ففي جنوب شرق آسيا، تظهر النماذج العلمية اقتراب صافي امتصاص الكربون من الصفر خلال بعض أشهر العام، بينما أدت موجات الحر القياسية إلى فقدان يُقدّر بنحو 1.73 جيجا طن من الكربون عبر النظم البيئية البرية عالميًا، في إشارة واضحة إلى تآكل الدور الوقائي الذي تلعبه الأراضي في مواجهة تغير المناخ.
يبرز التقرير الدور المحوري للتربة في هذه المعادلة المعقدة، حيث يؤكد أن مخزون الكربون في التربة يفوق بأكثر من ثلاثة أضعاف الكمية الموجودة في الغلاف الجوي والكتلة الحيوية مجتمعة. ورغم هذه الأهمية الاستراتيجية، فإن التربة تتعرض لضغوط متزايدة بفعل الزراعة غير المستدامة، وتغير استخدامات الأراضي، وحرق الوقود الأحفوري، ما يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من الغازات الدفيئة. وتشير التقديرات إلى أن انبعاثات التربة تسهم بما يتراوح بين 6.8 و7.9 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنويًا، تشمل الميثان من الأراضي الخثية الرطبة وزراعة الأرز، وأكسيد النيتروز من التربة الزراعية، إضافة إلى الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات.
ويربط التقرير بين تدهور الأراضي وفقدان غابات المانجروف وتراجع الكربون العضوي في التربة، باعتبارها مؤشرات مباشرة على تعمق الأزمة البيئية، في وقت تتحمل فيه دول مثل إندونيسيا والصين وروسيا نحو 31 في المئة من الانبعاثات العالمية المرتبطة بالأراضي الخثية. وفي موازاة ذلك، تسهم التغيرات المناخية وانتشار الأنواع الغازية في تسريع فقدان التنوع البيولوجي، حتى في مناطق كانت تُعد سابقًا معزولة نسبيًا، مثل القارة القطبية الجنوبية.
ويمتد التأثير ليشمل أنماط توزيع النباتات والحيوانات، حيث يرصد التقرير تحركات جغرافية واسعة لبعض الأنواع، مثل انتقال شجرة البتولا الهيمالايا شرقًا، وتراجعها في مناطق أخرى، فيما تشهد ولايات مثل كاليفورنيا تفاعلات معقدة بين التلوث وتغير المناخ وحرائق الغابات، أدت إلى نشوء أنماط بيئية جديدة أكثر هشاشة، تعزز بدورها دوائر التدهور البيئي.
ولا يغفل التقرير دور تلوث الهواء، خاصة الأوزون القريب من سطح الأرض، في تقويض التنوع البيولوجي، حيث أظهرت البيانات تجاوز مستويات الأوزون الحدود الآمنة لحماية الغابات في أكثر من نصف المناطق الحرجية بدول الوكالة الأوروبية للبيئة. كما تمتد آثار التغير المناخي إلى المناطق الثلجية، حيث يؤدي الاحترار المتسارع وترسب «الكربون الأسود» إلى تسريع ذوبان الجليد، وتعريض النظم البيئية الجبلية لضغوط إضافية.
ويخلص التقرير، الذي حصل موقع «جسور 2030» على نسخة منه، إلى رسالة واضحة، مفادها أن حماية المناخ لم تعد ممكنة دون حماية التربة والغابات والتنوع البيولوجي، وأن استمرار الإنسان في إعادة تشكيل الطبيعة بهذه الوتيرة، يدفع الكوكب إلى «نفق مظلم» تتداخل فيه الأزمات البيئية والمناخية، ما لم تُتخذ إجراءات جذرية تعيد التوازن بين الإنسان والنظم الطبيعية التي يقوم عليها استقرار الحياة على الأرض.