بدايةُ من المضادات الحيوية ومسكنات الآلام، وصولاً إلى علاجات الكثير من الأمراض المستعصية، مثل الأورام السرطانية، وفيروس نقص المناعة «الإيدز»، توفر الطبيعة فوائد لا حصر لها لضمان صحة أفضل للبشر، إذ تقدم النظم البيئية العديد من المنتجات والخدمات، التي تساعد في الحفاظ على أشكال الحياة على كوكب الأرض، بما فيها حياة الإنسان.

وبينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو مليون نوع من الكائنات الحية، سواء الحيوانية أو النباتية، تواجه تهديداً بالانقراض، فقد أطلق مؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي (COP15)، الذي عُقد في مونتريال بكندا، في وقت سابق من الشهر الجاري، تحذيراً من أنه «إذا واصلنا الإضرار بالبيئة، فإننا نجازف بفقدان الفوائد الصحية التي توفرها لنا النظم الطبيعية».

وفي محاولة لتأكّيد أهمية حماية التنوع البيولوجي، باعتبار أن ذلك «مسألة حياة أو موت» للبشرية، أصدَر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً بعنوان «كيف تعتمد صحتنا على التنوع البيولوجي»، أشار فيه إلى ما يمكن أن تقدمه النظم الطبيعية من خدمات واسعة النطاق، لضمان صحة أفضل للبشر، معتبراً أنَّ هذه الخدمات «من المستحيل» استبدالها، رغم ما تنطوي عليه من تكلفة مالية باهظة.

وأكّد التقرير أنَّ غالبية الأدوية التي توصف في البلدان الصناعية، مشتقة من مركبات طبيعية، تنتجها الحيوانات والنباتات، كما يعتمد مليارات الأشخاص في الدول النامية بشكل أساسي، على الطب التقليدي القائم على النباتات، في الرعاية الصحية الأولية، فضلاً عن أن العديد من العلاجات، التي تأتي من الطبيعة معروفة، وفي مقدمتها المسكنات، مثل «المورفين»، تأتي من «خشخاش الأفيون»، و«الكينين» المضاد للملاريا، يأتي من لحاء شجرة «الكينا» في أمريكا الجنوبية، والمضاد الحيوي «البنسلين»، تنتجه أنواع من الفطريات المجهرية.

ولفت تقرير «كيف تعتمد صحتنا على التنوع البيولوجي» إلى أنَّ الميكروبات المكتشفة في تربة «رابا نوي»، أو «جزيرة إيستر»، تحارب أمراض القلب، عن طريق خفض الكوليسترول، كما أنَّ أحد أول الأدوية المضادة لفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز»، وهو العقار المعروف باسم (ATZ)، جاء من إسفنجة كبيرة بالمياه الضحلة في منطقة البحر الكاريبي، والتي تنتج أيضاً مضادات الفيروسات لعلاج «الهربس»، وتعمل كمصدر لأول دواء مشتق من البحر مضاد للسرطان، تم ترخيصه في الولايات المتحدة.

أضاف التقرير أنَّه تمّ حتى الآن، تحديد 1.9 مليون نوع فقط، بينما يُعتقد أن هناك ملايين أخرى غير معروفة تماماً، واعتبر أن كل شيء على قيد الحياة هو نتيجة «مختبر حي» معقد، يجري اختباراته السريرية الخاصة منذ أن بدأت الحياة، أي حوالي 3.7 مليار سنة، مشيراً إلى أنَّ هذا الخزان الهائل من الأدوية الطبيعية، يحتوي على عدد لا يحصى من العلاجات غير المكتشفة، ما لم ندمرها قبل التعرف عليها.

على سبيل المثال، مع ذوبان الجليد في القطب الشمالي، موطن الدب القطبي، المصنف الآن ضمن الأنواع المهددة بالانقراض، نتيجة تغير المناخ، أصبح أكبر حيوان مفترس بري في العالم رمزاً للمخاطر التي يشكلها ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وقد يكون أيضاً رمزاً للصحة، حيث تجمع الدببة القطبية كميات هائلة من الدهون قبل الدخول في السبات، وعلى الرغم من وصول بدانتها إلى درجة تهدد حياة الإنسان، إلا أنَّها على ما يبدو محصنة ضد مرض السكري من النوع الثاني، وعلى الرغم من انعدام حركتها لعدة أشهر، إلا أن عظامها لا تتأثر، كما أنها لا تتبول خلال هذه الفترة، ولكن كلاها لا تتضرر، وفي حالة دراسة وإعادة إنتاج كيفية قيام الدببة بإزالة السموم من أجسامها أثناء السبات، فقد يقدرنا ذلك على علاج، وربما حتى منع، السمية الناتجة عن الفشل الكلوي لدى البشر.

ومن المعروف أنَّ 13% من سكان العالم يعانون حالياً من السمنة السريرية، ومن المتوقع أن يرتفع عدد المصابين بالسكري من النوع الثاني إلى 700 مليون شخص بحلول عام 2045، كما أن واحدة من كل ثلاث نساء فوق سن الخمسين، وواحد من كل خمسة رجال، سيعانون من كسور مرتبطة بهشاشة العظام، كما أنه في الولايات المتحدة وحدها، يقتل الفشل الكلوي أكثر من 82 ألف شخص، ويكلف الاقتصاد الأمريكي ما يزيد على 35 مليون دولار سنوياً.

ويؤكّد تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي «كيف تعتمد صحتنا على التنوع البيولوجي»، الذي حصلت «جسور 2030» على نسخة منه، أنَّ الدببة القطبية تمكنت، وبشكل طبيعي، من تطوير العديد من الحلول القائمة على الطبيعة لكثير من الأمراض التي تؤرق ملايين البشر في أنحاء العالم، مثل مرض السكري من النوع الثاني، وأمراض السمنة، وهشاشة العظام نتيجة انعدام الحركة، والسمية من الفشل الكلوي.

مثال آخر على الخدمات واسعة النطاق، التي تمنحها الطبيعة للبشرية، يتمثل في الشعاب المرجانية، والتي أحيانًا تسمى بـ«غابات البحر المطيرة»، بسبب كثافة تنوعها البيولوجي، فمن بين سكان هذه الشعاب، التي لا تُعد ولا تحصى، توجد أصداف مخروطية، وهي رخويات مفترسة تصطاد بالسهام، وتوفر نحو 200 مركب سام مختلف، تُستخدم في إنتاج العديد من العقاقير، وفي مقدمتها مسكنات الآلام، من ضمنها عقار «زيكونوتايد»، الذي يتميز بأنه أقوى من «المورفين» بمقدار ألف مرة، كما أنه يتجنب آثار التحمل والاعتماد الذي يمكن أن تسببه المواد المنتجة من نبات «الأفيون».

وبينما أوضح التقرير أنه تم فحص 6 أنواع فقط، من بين نحو 700 نوع من ذلك الحلزون المخروطي، كما تمت دراسة مائة نوع فقط من ضمن آلاف المركبات الفريدة المحتملة، التي تحملها هذه الأنواع البحرية، فقد لفت إلى أن النظم الطبيعية التي تعيش فيها هذه الرخويات، والتي تتمثل في مستعمرات الشعاب المرجانية، تتعرض للتدهور المتزايد بشكل ينذر بالخطر، مما يهدد باندثار الكثير من الأنواع التي تعيش عليها.

وأكد التقرير أن توفير المركبات الكيميائية ليس الأمر الوحيد الذي يجعل التنوع البيولوجي أمراً حيوياً لصحة البشر، يحث ساهمت مجموعة مذهلة من الأنواع في إحداث ثورة في المعرفة الطبية، ولطالما كانت أسماك «الزرد» مرجعية في المعرفة بكيفية تكوين الأعضاء، وخاصة القلب، كما لعبت الدودة المستديرة المجهرية دوراً كبيراً في فهم مرض «موت الخلايا المبرمج»، الذي لا ينظم فقط نمو الأعضاء، ولكن يمكن أن يسبب السرطان عند تعطله، كما تستخدم ذبابة الفاكهة، والأنواع البكتيرية بشكل رئيسي، في الأبحاث التي أدت إلى ترسيم خريطة «الجينوم» البشري.

وحذر تقرير «كيف تعتمد صحتنا على التنوع البيولوجي» من أنه قد تكون هناك أنواع كثيرة غير مكتشفة، مثل حيوانات المختبرات العلمية، تمتلك سمات تجعلها مناسبة بشكل خاص لدراسة وعلاج الأمراض التي تصيب الإنسان، وإذا ما فقدنا هذه الأنواع، ستضيع أسرارها معها.