تحرص الشعوب الأصلية، في مختلف أنحاء العالم، على إحياء اللغة الأم بين أبنائها، رغم ما تواجهه تلك اللغات من تهديدات بالاندثار، بدايةً من مجتمعات القطب الشمالي، التي مازالت تتمسك بلغاتها الأصلية، إلى شعب «أراهواكو» في كولومبيا، الذي يسعى للحفاظ على ما لغة «الإيكا»، التي تواجه تهديداً كبيراً أمام سطوة اللغة الإسبانية، وغيرها من اللغات الأخرى.
ونظراً لما تشكله لغات الشعوب الأصلية من قيم ثقافية وتراثية وتاريخية، أطلقت الأمم المتحدة عقداً دولياً للحفاظ على هذه اللغات، التي تواجه تهديداً متزايداً بالانقراض، حيث عملت المنظمة الدولية، منذ فترة طويلة، على تقديم الدعم للشعوب الأصلية، التي تُعد ضمانة للحفاظ على ممارسات وثقافات فريدة، تعكس مدى الترابط بين تلك الشعوب والنظم البيئية من حولهم.
انقراض اللغة يشمل الثقافة والتقاليد
ووفقاً لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، تشكل الشعوب الأصلية نسبة أقل من 6% من إجمالي عدد السكان في العالم، إلا أن هذه النسبة الضئيلة من السكان تتحدث أكثر من 4 آلاف لغة، من بين حوالي 6700 لغة معروفة بين البشر، وهو ما يعني أن الحفاظ على لغات الشعوب الأصلية لن يكون مهماً فقط لتلك الشعوب، بل تمتد أهميتها إلى البشرية بشكل عام.
وعن ذلك، قال تشابا كوروشي، رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، في بيان تلقت «جسور 2030» نسخة منه، إنه «مع انقراض كل لغة أصلية، تنقرض معها الفكرة أيضاً، الثقافة والتقاليد والمعرفة التي تحملها»، وأضاف: «الحفاظ على لغات الشعوب الأصلية يكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لنا، لأننا في حاجة ماسة إلى إحداث تحول جذري في الطريقة التي نتعامل بها مع البيئة المحيطة بنا».
ودعا المسؤول الأممي جميع البلدان إلى العمل بشكل جدي مع مجتمعات السكان الأصليين، بهدف ضمان وحماية حقوقهم، مثل الوصول إلى التعليم والموارد بلغاتهم الأصلية، وضمان عدم استغلالهم ومعارفهم، وأضاف: «وربما الأهم من ذلك، التشاور بشكل هادف مع الشعوب الأصلية، والمشاركة معها في كل مرحلة من مراحل عمليات صنع القرار».
تحذيرات من اندثار لغة كل أسبوعين
وبينما تشير تقديرات دولية إلى أن أكثر من نصف اللغات المعروفة حالياً ستتعرض للانقراض بحلول نهاية القرن الجاري، أوضح «كوروشي»، في بيانه، أن لغة أصلية واحدة على الأقل تواجه الاندثار كل أسبوعين، واعتبر أن «هذا يجب أن يدق ناقوس الخطر بالنسبة لنا»، مشيراً إلى أن الشعوب الأصلية هي المسؤولة عن إدارة وصون ما يقرب من 80% من التنوع البيولوجي في العالم.
ولفت رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى مؤتمر التنوع البيولوجي (COP-15)، الذي عُقد في ديسمبر الماضي بمدينة مونتريال في كندا، والذي تطرق إلى أبرز القضايا والتحديات التي تواجه الشعوب الأصلية، قائلاً: «إذا أردنا حماية الطبيعة بنجاح، يجب علينا أن نستمع إلى الشعوب الأصلية، ويجب أن نفعل ذلك باللغة التي يتحدث بها أبناء تلك الشعوب».
اللغة الأصلية أكثر من مجرد كلمات
وبمناسبة إطلاق العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية، نظمت الأمم المتحدة عدة فعاليات، شارك فيها أشخاص من السكان الأصليين وسفراء بالمنظمة الدولية، عبروا خلالها عن أهمية الحفاظ على اللغات الأصلية وإنقاذها من الاندثار، حيث أكد السفير المكسيكي لدى المنظمة، خوان رامون دي لا فوينتي، أن «اللغة أكثر من مجرد كلمات».
وفي كلمته التي ألقاها باسم مجموعة «أصدقاء الشعوب الأصلية»، التي تضم 22 عضواً، قال السفير المكسيكي عن اللغة الأصلية، إنها «جوهر هوية المتحدثين بها، والروح الجماعية لشعوبها»، مؤكداً أن «اللغات تجسد تاريخ الناس وثقافتهم وتقاليدهم»، كما حذر، في ختام كلمته، من أن لغات الشعوب الأصلية «تندثر بمعدل ينذر بالخطر».
ارتباط اللغة بالهوية الثقافية والحكمة
أما سفيرة كولومبيا لدى الأمم المتحدة، ليونور زالاباتا توريس، والتي تنتمي إلى شعب «أراهواكو»، فقد حرصت على الحديث في جزء من خطابها، خلال فعالية إطلاق العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية، بلغة «الإيكا»، وهي إحدى لغات الشعوب الأصلية، البالغ عددها 65 لغة، يتم التحدث بها في موطن شعوبها الأصلية، وقوبل خطابها بتصفيق حار من الحضور.
وتابعت السفيرة الكولومبية حديثها باللغة الإسبانية، وهي اللغة الرسمية في بلادها، بقولها إن «اللغة هي تعبير عن الحكمة والهوية الثقافية، وهي الأداة التي تعطي معنى لواقعنا اليومي، الذي ورثناه عن أسلافنا»، وأضافت: «لسوء الحظ، التنوع اللغوي في خطر، وقد نتج هذا عن الانخفاض الكبير في استخدام اللغات الأصلية، والاستعاضة عنها بلغات مجتمعات الأغلبية».
اللغة أداة الشعوب لتقرير مصيرها
ومن جانبها، قالت ألوكي كوتييرك، ممثلة مجتمعات الشعوب الأصلية في القطب الشمالي، إن اللغة تعتبر أمرا بالغ الأهمية بالنسبة للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية لمجتمعها، وأضافت: «في الواقع، في كل مرة ينطق فيها أحد السكان الأصليين بكلمة بلغة من لغات السكان الأصليين، يكون هذا فعلاً لتقرير المصير».
ومع ذلك، قالت «كوتييرك» إن اللغات واللهجات المحلية «في مستويات مختلفة من الحيوية»، معربةً عن أملها في أن تشهد وقتاً يمكن فيه للشعوب الأصلية في القطب الشمالي «الوقوف بشموخ في أوطانها بكرامة، مدركة أنها تستطيع العمل في جميع جوانب حياتها، بلغتها الخاصة، والحصول على الخدمات العامة الأساسية في مجالات الصحة والعدالة والتعليم».
دعوة لتحقيق العدالة اللغوية والثقافية
وحثت الدكتورة مريم واليت ميد أبو بكرين، وهي طبيبة من مالي، تدافع عن حقوق الشعوب الأصلية في أفريقيا، ولاسيما «الطوارق»، في كلمتها أثناء إطلاق فعالية إطلاق العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية، دول العالم المختلفة على تحقيق العدالة الثقافية اللغوية للشعوب الأصلية، «الأمر الذي لن يسهم إلا في المصالحة والسلام الدائم»، بحسب قولها.
وأعربت «مريم» عن أملها في أن يتوج العقد الدولي باعتماد اتفاقية للأمم المتحدة، بحيث يمكن لكل امرأة من الشعوب الأصلية أن تلاعب طفلها بلغتها الأصلية، ويمكن لكل طفل من أبناء الشعوب الأصلية اللعب بلغته، ويمكن لكل شاب وبالغ التعبير عن نفسه والعمل بأمان بلغته، بما في ذلك في المساحات الرقمية، وللتأكد كذلك من أن كل شيخ يمكنه نقل تجربته للأجيال المقبلة بلغته