«المنح الصغيرة» يتيح فرصة لأصحاب «الحنطور» لرسم مستقبل مشرق للمدينة السياحية
في مدينة الأقصر، حيث تتناغم الحضارة مع الحاضر، وحيث تنتشر العربات التي تجرها الخيول بين شوارعها التراثية، بزغت فكرة بسيطة لكنها عظيمة في أثرها: تحويل ما يُعتبر “نفايات” إلى مورد حيوي، يغيّر واقع البيئة، ويحسن حياة الناس، بل ويمنح الأمل في غد أنظف وأفضل، هذه الفكرة احتضنها برنامج المنح الصغيرة، التابع لمرفق البيئة العالمية (GEF/SGP)، عبر مشروع رائد عنوانه «توفير فرص كسب العيش بالتدريب على إعادة تدوير روث الخيول إلى سماد عضوي».. المشروع الرائد من نوعه، الذي تقوم بتنفيذه جمعية «نور الإسلام الخيرية» بالأقصر، لا يقتصر على الجانب البيئي فحسب، بل يتعداه إلى تمكين المجتمعات المحلية.
من روث الخيول.. تبدأ الحكاية
في ندوة تثقيفية، نظمتها إدارة المشروع بمدرسة الأقباط الكاثوليك الابتدائية بالأقصر، وقف الدكتور حامد محمد إسماعيل، أمام الأطفال ليحدثهم عن روث الحيوانات، لكن ما بدا موضوعاً «منفراً» تحول في أعينهم إلى قصة إنقاذ للبيئة، وفرصة عمل، وأداة للزراعة العضوية، بل وحتى مصدراً للطاقة.
«الروث ليس نهاية، بل بداية لدورة حياة جديدة»، بهذه العبارة لخّص الدكتور إسماعيل فلسفة المشروع، مؤكداً أن إعادة تدوير هذه المخلفات العضوية يمكن أن تقي الأرض من التدهور، وتحد من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتحافظ على نقاء المياه، وتقلل من التلوث.
بيئة نظيفة.. ومصدر دخل جديد
المستفيدون الأساسيون من المشروع كانوا أصحاب الحنطور، الذين اعتادوا على روتين حياة يومي يتخلله مشهد طبيعي لمخلفات الخيول في الطرقات، لكن ندوة خاصة، قدمتها الدكتورة عفاف عبدالباسط، بعنوان «أثر التعامل الآمن في التخلص من الروث على البيئة وصحة الإنسان»، كانت بمثابة نقطة التحول.. شرحت لهم المخاطر البيئية والصحية الناجمة عن إهمال هذه المخلفات، من انتشار الحشرات والأمراض، إلى تلوث الهواء والماء، وما يصاحب ذلك من نفور السياح، وتشوه المظهر العام للمدينة، ثم عرضت الحلول ببساطة وواقعية، والتي تتمثل في أكياس مخصصة لجمع الروث، ومناطق مخصصة للتخلص منه، وتحويله لاحقاً إلى سماد عضوي، أو حتى مصدر للطاقة الحيوية.
من خلال التدريب والتوعية، بدأ أصحاب الحنطور يدركون أن جمع الروث لا يشكل عبئاً إضافياً، بل مصدراً جديداً للدخل، السماد العضوي المنتج من هذه المخلفات يُستخدم في الزراعة العضوية، ويمكن بيعه للمزارعين، أو استخدامه في مشاريع خضراء، كما أن الغاز الحيوي المستخلص من الروث، يمكن أن يُستخدم كبديل للوقود التقليدي في منازلهم أو مجتمعاتهم.
الأطفال شركاء في التغيير
الأجيال القادمة لم تُستبعد من المشهد، بل كانت في قلبه، غُرست في الأطفال بذور الوعي البيئي منذ سن مبكرة، تعلموا أن البيئة ليست شيئاً بعيداً عنهم، بل هي مسؤوليتهم الشخصية، رسموا، وتناقشوا، وتخيلوا مدينتهم بدون روائح كريهة أو حشرات أو شوارع ملوثة، فهنا تتشكل ثقافة بيئية تُبنى على الفهم وليس على التلقين.
نموذج قابل للتكرار
برنامج المنح الصغيرة (GEF/SGP) يقدم مثالاً عملياً لما يمكن أن تصنعه المبادرات الصغيرة عندما توجه بشكل علمي ومجتمعي، إنه ليس فقط مشروعاً لإعادة التدوير، بل تجربة تنموية متكاملة تمس البيئة، والاقتصاد، والتعليم، والصحة العامة.
ويمكن القول إنه حين يُمنح المجتمع المحلي الأدوات والمعرفة والثقة، يتحول إلى شريك فعّال في التنمية المستدامة، حيث يُعد مشروع إعادة تدوير روث الخيول في الأقصر قصة نجاح حقيقية، تؤكد أن الحلول البيئية ليست دائماً معقدة، بل أحياناً تبدأ فقط بكيس خلف عربة حنطور، وتنتهي ببيئة أنظف، وأمل ممتد للأجيال القادمة.