قضت الحرب المستمرة على غزة، على أي أمل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في القطاع الفلسطيني، الذي عاني طويلاً تحت وطأة الحصار الكامل على مدار ما يزيد على 17 عاماً.
ومع استمرار القصف على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فقد أفضت الحرب، بالإضافة إلى الحصار الكامل الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية على القطاع منذ عام 2007، إلى زج السكان في دوامة غير مسبوقة من الحرمان والفقر، كما دفعت إلى كارثة إنسانية على كافة المستويات.
وتعتبر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” أن تداعيات الحرب على غزة “مدمرة وغير مسبوقة”، من حيث جسامة الخسائر في الأرواح، وحجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، أحد أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم.
ووفق الأرقام المعلنة، مع دخول الحرب على غزة أسبوعها الرابع، فقد أسفر القصف عن مقتل ما لا يقل عن 6500 شخص، حوالي 40% من الأطفال، وهذا الرقم يفوق ثلاثة أضعاف مجموع القتلى في أربعة هجمات عسكرية سابقة على قطاع غزة منذ عام 2008.
كما تسبب القصف الإسرائيلي المستمر على مدار ثلاثة أسابيع، حتى صدور تقرير “الإسكوا”، بعنوان “الحرب على غزة 2023: تداعيات مدمرة وغير مسبوقة”، في تدمير ما لا يقل عن 42% من المساكن في غزة، وألحق بها أضراراً جسيمة.
يتضمن التقرير محورين رئيسيين، الأول يتعلق بالوضع الكارثي الحالي من خلال رصد السياق الاقتصادي والاجتماعي في غزة قبل الحرب، الذي يحدد ملامحه الاحتلال والحصار والهجمات المتعاقبة، بينما يختص المحور الثاني برصد التداعيات المباشرة وذات المدى الطويل للحرب الحالية.
أهداف تنموية مفقودة و5 رسائل حاضرة
يتناول تقرير «الإسكوا» مدى التراجع في مؤشرات تحقيق أهداف التنمية المستدامة في قطاع غزة على مدار 17 عاماً من الحصار، والتي أدت الحرب الحالية إلى دفعها نحو مزيد من التراجع لمستويات يصعب تداركها، ومنها:
- الهدف الأول: القضاء على الفقر.
- الهدف الثاني: القضاء التام على الجوع.
- الهدف الثالث: الصحة الجيدة والرفاه.
- الهدف الرابع: التعليم الجيد.
- الهدف السادس: المياه النظيفة والنظافة الصحية.
- الهدف السابع: طاقة نظيفة وبأسعار معقولة.
- الهدف الثامن: العمل اللائق ونمو الاقتصاد.
- الهدف الـ11: مدن ومجتمعات محلية مستدامة.
- الهدف الـ16: السلام والعدل والمؤسسات القوية.
تستهل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” تقريرها، الذي تلقت “جسور 2030” نسخة منه، باستعراض 5 رسائل رئيسية، تتضمن:
- أفضت الحرب على غزة، تحت وطأة الحصار الكامل، الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، إلى زج السكان في دوامة غير مسبوقة من الحرمان والفقر المتعدد الأبعاد.
- حتى في حال قبول وقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ستبقى نسبة كبيرة من السكان عالقة لعدة سنوات، في دوامة الفقر والحرمان.
- من الواجب إتاحة تدفق كميات كافية من المساعدات الإنسانية الحيوية إلى 2.3 مليون فلسطيني وفلسطينية موجودين في غزة، والالتزام الكامل بالقانون الإنساني الدولي، بدءاً بحماية المدنيين.
- ينبغي أن تتفادى أي جهود دولية لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية في غزة، الوقوع في أخطاء الماضي، ولاسيما الاكتفاء بمعالجة النتائج المباشرة للحرب والتصعيد العسكري، دون معالجة الأسباب الجذرية، بما في ذلك حصار إسرائيل لغزة، واحتلالها للأرض الفلسطينية بشكل عام.
- لابد من إعطاء الأولوية لتطبيق القانون الدولي، من أجل منع العنف في المستقبل، وتحقيق سالم عادل ودائم، وذلك دون استثناء أو إبطاء.
يظهر التقرير أن الحرب على غزة أدت إلى ارتفاع مؤشر “الفقر متعدد الأبعاد”، الذي يطال نسبة تصل إلى 96% من إجمالي سكان القطاع، كأحد التداعيات المباشرة للحرب الحالية، في حين أن هذه النسبة كانت لا تتجاوز 45% في عامي 2017 و2018.
أكبر سجن مفتوح في العالم
يصف تقرير “الإسكوا” الحرب على غزة، التي اندلعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بأنها “غير مسبوقة”، من حيث جسامة حصيلتها من الموت والدمار، كما أّن آثارها على حياة الفلسطينيين في القطاع المحتل “عميقة ومدمرة”.
ويُعد قطاع غزة، ذلك الجيب الساحلي الذي لا تتعدى مساحته 45 كيلومتراً مربعا، وتحتله إسرائيل منذ عام 1967، أحد أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، حيث يعيش فيه نحو 2.3 مليون فلسطيني، أكثر من 66% منهم لاجئون منذ عام 1948.
يشير التقرير إلى أن العامل الرئيسي الذي يؤّثر على ظروف غزة، هو مصفوفة السياسات والممارسات التي تعتمدها إسرائيل في إطار 56 عاماً من الاحتلال العسكري، ولاسيما الحصار المفروض منذ عام 2007، وعمليات التصعيد العسكري المتكررة.
كما يصف تقرير “الحرب على غزة 2023: تداعيات مدمرة وغير مسبوقة”، الحصار المفروض على غزة منذ يونيو/ حزيران 2007، بأنه أحد أقسى تجليات السياسات الإسرائيلية طويلة الأمد، التي تقيد حركة الفلسطينيين على نحو يشكل عقاباً جماعياً.
وبينما عاني الفلسطينيون طويلاً بسبب عرقلة جهود إعادة الإعمار والتعافي، بعد الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتكررة، فإن الحصار يلقي هو الآخر بثفله على جميع جوانب حياة الفلسطينيين في غزة، كما أدى تضافر تداعيات الحصار، وعمليات التصعيد العسكري المتكررة، إلى فقدان التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وصولاً إلى أزمة إنسانية مفتوحة من صنع الإنسان.
ويشير التقرير إلى أن عدد من سمحت لهم السلطات الإسرائيلية بمغادرة قطاع غزة، تراجع بشكل كبير من أكثر من نصف مليون شخص في الشهر، وفق تقديرات عام 2000، إلى نحو 35 ألف شخص في الشهر عام 2022، علماً أن الحصار مفروض أيضاً على بعض السلع الضرورية.
غزة مكان غير صالح للعيش
لطالما تعامل المجتمع الدولي مع تداعيات عمليات التصعيد العسكري السابقة، من خلال إرسال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، وعمليات إعادة إعمار محدودة، دون معالجة الأسباب الجذرية للتصعيد، وعلى رأسها استمرار إسرائيل في حصار غزة، واحتلال الأراضي الفلسطينية، وعدم الامتثال للقانون الدولي.
ويشير التقرير إلى أنه في ظل الاتجاه العالمي المتمثل في تضاؤل حجم المعونات الدولية، ساهم تحويل وجهة المساعدات، من التنمية إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية الآنية، في زج الفلسطينيين في دوامة من التبعية، وفقدان الأمل في تحقيق التنمية.
وأدت موجات التصعيد العسكري إلى تراجع كبير في نواتج التنمية، وحولت المعونة المُقدمة، التي انخفضت قيمتها الإجمالية عبر السنوات، من دعم التنمية إلى المعونة الإنسانية، ففي عام 2010، كان الدعم التنموي يفوق المعونة الإنسانية بخمسة أضعاف، أما في عام 2021، فأصبح يفوقها بمرة ونصف فقط.
وتسبب الحصار، والقيود الأخرى المفروضة، في تفاقم الأوضاع في قطاع غزة سنة تلو الأخرى، كما أدت الهجمات والتصعيد العسكري المتكرر إلى عرقلة الجهود الدولية الرامية للتخفيف من أثار هذه القيود والمعاناة الناجمة عنها، وإلى تعزيز التعافي.
ونتيجة لذلك، كانت الظروف المعيشية عشية حرب أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أسوأ بكثير مما كانت عليه في 2007، حيث أصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزة اليوم، أقل مما كان عليه في عام 2000، مما يُعد دليلاً واضحاً على تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية في القطاع المحاصر.
وبحسب الأمينة التنفيذية للجنة الإسكوا، رولا دشتي، فقد شهد قطاع غزة، على مدى سنوات طويلة، دوامة تراجع على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، اتضحت مثلاً في أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي كان يبلغ 1972 دولاراً أمريكياً في عام 2000، تراجع إلى 1256 دولارا في 2022.
وبينما اعتبرت أن هذا التراجع ليس إلا أحد مؤشرات الوضع الكارثي، الذي كان يعيش فيه سكان القطاع قبل هذه الحرب، فقد شددت “دشتي” على مسؤولية المجتمع الدولي في ضمان تدفق كميات كافية من المساعدات الإنسانية الحيوية إلى غزة بشكل فوري.
أزمة إنسانية طاحنة تتوارثها الأجيال
يظهر تقرير “الإسكوا” أنه قبل اندلاع حرب أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كان 45% من سكان غزة يعانون بالفعل من “الفقر المتعدد الأبعاد”، وهذه النسبة أعلى بكثير مما كانت عليه في الضفة الغربية، أي 10.6% في الفترة بين 2017 و2018.
أثر القصف العنيف، والحصار الكامل، والنقص في الإمدادات الطبية الحيوية، وإمدادات الغذاء والمياه والطاقة، وتدمير البنى التحتية الأساسية، تأثيراً متسارعاً وكبيراً على الأبعاد السبعة للدليل الوطني للفقر المتعدد الأبعاد في غزة، في غضون 16 يوماً فقط.
- الأمان واستخدام الأصول: أدى القصف العنيف والنزوح والضرر، الذي لحق بالممتلكات، إلى حرمان شعب بكامله من الشعور بالأمان ومن سلامة أصوله.
- التعليم: ستكون لتعليق جميع الأنشطة المدرسية والتعليمية بالكامل، آثار طويلة الأجل، لاسيما إذا اقترن ذلك بتدمير المرافق والبنى التحتية ورأس المال البشري لقطاع التعليم.
- الرعاية الصحية: أفضى سقوط الآلاف من القتلى والجرحى، والضرر والتدمير الجسيمان اللذان لحقا بالمرافق والمنشآت الصحية الأساسية، وانقطاع الكهرباء، وشح المياه، وتضاؤل الإمدادات الطبية، إلى شل منظومة الرعاية الصحية في غزة.
- التشغيل: أصبحت الأنشطة الاقتصادية والتحويلات شبه متوقفة، في حين أن حجم دمار الأصول الاقتصادية لا يزال غير واضح.
- الإسكان: أفضى تحول نسبة 42% من الوحدات السكنية في غزة إلى أماكن غير قابلة للسكن، وانخفاض إمدادات المياه، والاكتظاظ السكاني، وسوء التهوية، إلى ظروف معيشية قاسية، ومخاطر صحية متزايدة، وتهجير طويل الأمد.
- الحريات الشخصية: بفعل القيود المفروضة على حرية التنقل، بات حصول السكان على الخدمات الأساسية المنقذة للحياة، أمراً شبه مستحيل.
- الموارد النقدية: في ظل ارتفاع معدلات الفقر، ازداد عدد الأسر التي تكافح للحصول على الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والمياه النظيفة.
شعب بأكمله فريسة للفقر
وبحسب تقديرات “الإسكوا”، مع دخول الحرب الأسبوع الرابع، طال الفقر المتعدد الأبعاد أكثر من 96% من سكان غزة، وهو ما يعني أن جميع السكان المقيمين في القطاع المحاصر، والبالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد، ويفتقرون إلى الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة.
ولتوضيح جسامة هذه النتائج، يشير التقرير إلى أنه حتى لو توقفت الأعمال العدائية، وتم السماح بدخول المساعدات الإنسانية، واستئناف الأنشطة التعليمية والاقتصادية وإعادة الإعمار، وانخفضت معدلات البطالة والفقر، وتحسنت إمكانية الحصول على المياه والخدمات الصحية، سيظل أكثر من 69% من سكان غزة فريسة للفقر المتعدد الأبعاد، وسيبلغ متوسط شدة الحرمان 49%.
وتشير الأمينة التنفيذية للجنة الإسكوا إلى أن السبب في استمرار معاناة معظم سكان غزة، يرجع إلى أن العديد من المؤشرات المهمة، من مؤشرات الدليل الوطني للفقر المتعدد الأبعاد، لن تعود فور انتهاء الحرب، إلى مستوياتها ما قبل الحرب.
إلا أنه من المتوقع، فور انتهاء الحرب، أن يسجل مستوى الحرمان انخفاضاً كبيراً، حسب العديد من المؤشرات الرئيسية، مثل:
- مؤشر الالتحاق بالمدارس (انخفاض الحرمان من 100 إلى 50%)
- مؤشر الحصول على إمدادات المياه بشكل متكرر (انخفاض من 90 إلى 40%)
- مؤشر الحصول على الخدمات الصحية (من 90 إلى 30%)
- مؤشر التنقل غير المقيد (من 90 إلى 20%)
وتوضح “دشتي” أن تداعيات الحرب الحالية على المقدرات البشرية في قطاع غزة ستستمر لعدة سنوات، غير أنه من شأن وقف إطلاق النار وتدفق المساعدات الإنسانية على وجه السرعة، أن يؤديا إلى انخفاض واضح وفوري في مستوى حرمان مئات الآلاف من الأسر الفلسطينية.
وتختتم الأمينة التنفيذية للإسكوا بقولها: “لتجنب تكرار انفجار العنف، يجب التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب بشكل مختلف عما جرى بعد الهجمات السابقة، فينبغي العمل على تصميم خطة لإنعاش غزة، ووضعها على مسار التنمية المستدامة، بالموازاة مع عملية سلام يرعاها المجتمع الدولي، تُعالج الأسباب الجذرية للحرب”.
وينبغي، في هذا الصدد، أن تستفيد هذه الخطة من أخطاء الماضي، وألا تقتصر فقط على التعامل مع الاحتياجات الإنسانية العاجلة، الناجمة عن الحرب.