يُعد البحر الأبيض المتوسط أحد أكبر البحار في العالم، ويتميز بأنه يحتوي على تنوع كبير للأحياء البحرية، غير أن هذا التنوع البيولوجي الفريد يواجه تهديدات مختلفة، ليس بسبب الأنشطة البشرية فقط، وإنما بسبب غزو العديد من الأنواع الدخيلة، وفي هذا التقرير، تستعرض «جسور 2030» أبرز مقومات النظم البيئية في البحر المتوسط، وتأثير هذه الأنواع الدخيلة على الكائنات البحرية والنظم البيئية المختلفة، فبحكم موقعه الذي يتوسط ثلاث قارات، آسيا وأفريقيا وأوروبا، تجمع سواحل البحر المتوسط بين 22 دولة، الأمر الذي يجعل منه مكاناً فريداً للعديد من الكائنات البحرية، حيث يضم حوالي 17 ألف نوع، يعيش حوالي 3500 نوع منها فقط في البحر الأبيض المتوسط، وليس في أي مكان آخر من العالم.
وعلى الرغم من تفرد البحر الأبيض المتوسط، وكثرة عدد الكائنات الحية التي تعيش فيه، فإن هذا التنوع يواجه تهديدات كبيرة بسبب الممارسات البشرية، حيث يمكن لبعض الأنشطة البشرية، مثل الصيد أو السباحة والإفراط في استخدام الموارد البحرية وتلوث البيئة البحرية، أن تتسبب في تدمير النظم البيئية البحرية، ووفق دراسة نشرت مؤخراً على موقع «فرونتيرز»، فقد أدت بعض الأنشطة البشرية، مثل الشحن، إلى إدخال أنواع من البحار الأخرى، وهي أنواع دخيلة يمكنها أن تتسبب في مشكلات خطيرة للأنواع المحلية التي تعيش في البحر الأبيض المتوسط.
ما هي مشكلة الأنواع الدخيلة؟
بمجرد وصولها إلى بيئتها الجديدة، لا تتمكن بعض الأنواع الدخيلة من البقاء على قيد الحياة، لأن الظروف في البيئة الجديدة قد تكون مختلفة للغاية عن الظروف في موائلها الأصلية، وقد تحب أنواع دخيلة أخرى، أكثر قدرة على التكيف، الظروف الجديدة، وتبدأ في التكاثر، وتتزايد أعدادها وتتوسع في جميع أنحاء المنطقة التي تحتلها، وفي بعض الحالات، قد تكون الأنواع الدخيلة مفيدة لمواطنها الجديدة، حيث تضطلع بأدوار بيئية مفيدة، وتدعم جيرانها المحليين، فمثلاً، تصبح مصدراً للغذاء للأنواع المحلية، أو تنظف المياه الملوثة.
ولكن، في معظم الحالات، يكون للأنواع الدخيلة تأثيراً سلبياً على النظم البيئية المحلية، فمثلًا، قد تتنافس الأنواع الدخيلة على الغذاء والمساحة مع الأنواع المحلية، أو قد تكون مفترسات شرهة للأنواع المحلية، وغالباً ما لا يكون للأنواع الدخيلة أي أعداء في بيئتها الجديدة، مما يمنحها ميزة على الأنواع المحلية، وفي النهاية، قد تتسبب الأنواع الدخيلة في انقراض بعض الأنواع المحلية، وعندما تتسبب أنواع دخيلة في مشكلات كبيرة في النظام البيئي، فإنها تُسمى الأنواع الدخيلة الغازية.
كيف تصل الأنواع الدخيلة إلى مواطنها الجديدة؟
يمكن للنوع البحري الانتقال إلى منطقة جديدة بعدة طرق مختلفة، تُسمى «مسارات الدخول»، ومن المهم تحديد مسار الدخول الذي استخدمه كل نوع دخيل للوصول إلى منطقة جديدة، لأن هذه المعرفة قد تساعد على التحكم في حركة الأنواع الدخيلة الجديدة، وتشير الدراسة إلى أن إحدى الطرق التي يمكن أن تصل بها الأنواع الدخيلة إلى البحر الأبيض المتوسط من خلال قناة السويس، التي تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، وتُسمى الأنواع التي تصل إلى البحر المتوسط من خلال قناة السويس بأنواع «ليسبسيان»، على اسم المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس، الذي أشرف على حفر القناة، وقد يساعد الشحن أيضاً في دخول أنواع دخيلة من أماكن بعيدة، كمسافرين خلسة، إما داخل مياه «الصابورة»، التي تخزنها السفن في خزانات خاصة للحفاظ على ثباتها، أو متصلة بسطح بدن السفينة، وقد تسبب البشر أيضاً في دخول بعض الأنواع إلى البحر الأبيض المتوسط عمداً لتربيتها في مرافق الاستزراع المائي، وهربت بعض الأنواع الدخيلة، أو أُطلقت من أحواض السمك العامة أو الخاصة.
كيف نعرف بوصول نوع دخيل للبحر المتوسط؟
كثيراً ما تصل أنواع جديدة إلى البحر الأبيض المتوسط من خلال مسارات دخول مختلفة، ونظراً لكثرة عدد الأنواع الدخيلة الجديدة، ولحجم البحر الأبيض المتوسط الكبير، فمن الصعب للغاية اكتشاف الأنواع الدخيلة الجديدة، ويبذل العلماء من العديد من البلدان، قصارى جهدهم لإيجاد الأنواع الدخيلة ومراقبتها ورصدها، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، ومع ذلك، لا يقتصر رصد الأنواع الدخيلة على العلماء فقط، فالعديد من الأشخاص يزورون البحر الأبيض المتوسط للسباحة أو الغوص أو الصيد، وهؤلاء مدعوون أيضاً للإبلاغ عن الأنواع الدخيلة للمدونات والسلطات المسؤولة عن التعامل مع هذا التهديد.
وفي إطار سعيها لتجميع بيانات عن كافة الأنواع الدخيلة الغازية في البحر الأبيض المتوسط، من مصادر مختلفة، بحيث يسهل إيجادها، أنشأت المفوضية الأوروبية «الشبكة الأوروبية للمعلومات عن الأنواع الغريبة»، المعروفة اختصاراً باسم (EASIN)، حيث يمكن للناس مشاركة المعلومات حول الأنواع الدخيلة في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط.
ما هي مسارات الدخول الرئيسية للأنواع الدخيلة؟
للإجابة على هذا السؤال، استخدم فريق الدراسة جميع سجلات الأنواع الدخيلة من قاعدة بيانات الشبكة الأوروبية للمعلومات عن الأنواع الغريبة، حتى يناير 2014، ووجدوا 986 نوعاً دخيلاً في البحر الأبيض المتوسط، ثم ربط الباحثون كل نوع دخيل بمسار دخول واحد على الأقل، في بعض الأحيان كان هذا سهلاً، بينما كان الأمر صعباً للغاية مع بعض الأنواع الدخيلة، ولاكتشاف مسارات الدخول، نحتاج أولاً إلى معرفة الموطن الأصلي للأنواع الدخيلة، ثم، اعتمادًا على المكان الذي رصدنا فيه الأنواع الدخيلة في المرة الأولى، يمكننا استنتاج مسار الدخول.
وأوردت الدراسة مثالاً توضيحياً، ذكرت فيه أنه إذا تم العثور على نوع دخيل موطنه الأصلي البحر الأحمر، في منطقة قريبة من مدخل قناة السويس، يمكن استنتاج أن هذا النوع ربما دخل البحر المتوسط بالانتقال من البحر الأحمر عبر قناة السويس، وعلى المنوال نفسه، إذا تم العثور على نوع دخيل موطنه الأصلي المحيط الأطلسي، في ميناء شرقي البحر المتوسط، يمكن استنتاج أنه ربما وصل إلى هناك على متن سفينة.
ومع ذلك، في بعض الأحيان يكون الأمر أكثر تعقيداً، وقد يكون مساران أو أكثر مسؤولين عن دخول الأنواع الدخيلة، وتشير الدراسة إلى أن الفريق تمكن من العثور على مسار دخول لنحو 799 نوعاً دخيلاً، ومسارين أو أكثر محتملين لما يقرب من 114 نوعاً دخيلاً، فيما لم يتمكن الباحثون من وضع افتراضات معقولة حول مسارات دخول حوالي 73 نوعاً دخيلاً، إلا أن الدراسة تظهر أن قناة السويس جاءت على رأس مسارات الدخول، حيث أنها كانت مسؤولة عن دخول 420 نوع «ليسبسيان»، ومعظم هذه الأنواع موجودة حالياً في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، بينما جاء الشحن في المرتبة الثانية بين مسارات الدخول، حيث أنه مسؤول عن دخول 308 أنواع دخيلة، منتشرة في جميع أنحاء البحر المتوسط، خاصة بالقرب من الموانئ، فيما كان الاستزراع المائي مسؤولاً عن دخول 64 نوعاً دخيلاً، توجد بشكل رئيسي في منطقتين بهما مرافق الاستزراع المائي، هما «بحيرة ثاو»، على «خليج الأسد׃، في فرنسا، و«بحيرة البندقية»، شمال البحر الأدرياتيكي، في إيطاليا.
هل تؤثر الأنواع الدخيلة على التنوع البيولوجي؟
تظهر الدراسة أن عدد أنواع الأسماك الدخيلة الموجودة في أجزاء معينة من البحر الأبيض المتوسط، مثل البحر المشرقي وبحر إيجه الجنوبي الشرقي، أكثر من المناطق الأخرى، كما تظهر أنواع اللافقاريات الدخيلة نمطاً مشابهاً، ولكن كان لها أيضاً وجود كبير على طول الساحل الفرنسي، في «بحيرة ثاو»، على طول البحر الأدرياتيكي الشمالي، وشرق صقلية، فيما تظهر الطحالب الدخيلة نمطاً معاكساً، مع وجود المزيد من أنواع الطحالب الدخيلة في مناطق غرب البحر المتوسط.
وتوضح الدراسة أن توزيع الأنواع الدخيلة يختلف حسب مسار الدخول المستخدم، ويعتمد على طبيعة النوع الدخيل، ما إذا كان أسماك، أو لافقاريات، أو طحالب، كما تبين أن تكوين الأنواع الدخيلة، أي مجموعة جميع الأنواع الدخيلة الموجودة في منطقةٍ ما، يتنوع بين المناطق المختلفة، ومن خلال تحليل مجموعة الأسماك المحلية واللافقاريات، وجد الباحثون نمطًاً عكس نمط الأنواع الدخيلة، حيث يشهد غرب البحر لمتوسط وجود عدد أكبر من الأنواع المحلية، مقارنةً بالشرق، في حين يشهد شرق البحر المتوسط وجود أنواع دخيلة أكثر من الغرب، الأمر الذي يؤكد أن الأنواع الدخيلة تؤثر إلى حد كبير على التنوع البيولوجي للبحر المتوسط.
كيف يمكن للسكان المساعدة في منع الغزو؟
يحتاج العلماء والمواطنون من سكان الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، على حدٍ سواء، إلى المساهمة للمساعدة في منع الغزو المستمر للأنواع الدخيلة، ويمكن ذلك من خلال عدة إجراءات، أولها يجب على المواطنين تبني سلوكيات مسؤولة، من شأنها الحد من دخول الأنواع الدخيلة إلى البحر الأبيض المتوسط، فمثلاً، يجب أن يحرص الأشخاص الذين لديهم أحواض مائية منزلية على عدم إطلاق كائناتهم البحرية مطلقاً في البرية، ويجب على الصيادين، عند السفر لمسافات طويلة من أجل الصيد، أن ينظفوا معداتهم جيداً قبل استخدامها مجدداً، لأن المعدات المُلوثة يمكن أن تنقل الكائنات الحية من مكان إلى آخر، كما ينبغي أن يصبح المواطنون على دراية بمشروعات «علم المواطن» المختلفة الموجودة في بلدانهم، التي يمكنهم من خلالها المساهمة في الكشف المبكر عن الأنواع البحرية الدخيلة ورصدها، وبهذه الطريقة، يمكن للمواطنين المساهمة في منع الغزو البيولوجي، من خلال إبلاغ العلماء والسلطات المختصة.