في واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في تاريخ البشرية، أصيب ما يقرب من 50 ألف شخص بتسمم كيميائي حاد، أسفر عن مقتل الآلاف، بينما عانى الناجون من إعاقات مزمنة دون أمل في العلاج، هذه الكارثة التي شهدتها اليابان قبل ما يقرب من 7 عقود، كانت نتيجة تناول الضحايا أسماك ملوثة بالزئبق، وغيره من العناصر الثقيلة، بعد قيام أحد مصانع الكيماويات الكبرى بالتخلص من مخلفاته السامة، ولفترة طويلة، في خليج «ميناماتا»، الذي يعتمد عليه غالبية السكان في صيد الأسماك.
ويسهم النشاط البشري في الجزء الأكبر من إطلاق مركبات الزئبق في البيئة، ففي كل عام، يتم إطلاق ما يصل إلى 9 آلاف طن من الزئبق في الغلاف الجوي وفي الماء وعلى سطح الأرض، ويتمثل أكبر مصدر لانبعاثات الزئبق في تعدين الذهب الحرفي، يليه احتراق الفحم، وإنتاج المعادن غير الحديدية، وإنتاج الإسمنت، كما تحتوي بعض المواد المستخدمة يومياً، مثل مستحضرات التجميل ومصابيح الفلورسنت والبطاريات وحشوات الأسنان، على الزئبق ومركباته.
يحدث التسمم بالزئبق في معظم الأحيان عن طريق ابتلاع الأسماك الملوثة، أو استنشاق مركبات الزئبق، خاصةً وأن الزئبق السائل، الذي يستخدم عادةً في أجهزة قياس درجة حرارة الجسم «الترمومتر»، وفي أجهزة قياس ضغط الدم، يمكنه أن يتبخر في درجة حرارة الغرفة.
69 عاماً على كارثة ميناماتا
رغم مرور نحو 69 عاماً على كارثة ميناماتا 1956، التي هزت الضمير الإنساني العالمي، ووثقتها الأمم المتحدة عبر اتفاقية دولية تحمل اسم نفس المدينة، وهي اتفاقية «ميناماتا»، التي تم الإعلان عنها في عام 2013، بهدف حماية صحة الإنسان والبيئة من أضرار الزئبق ومركباته وإطلاقاته بشرية المنشأ، وبينما دخلت اتفاقية «ميناماتا» حيز التنفيذ في أغسطس 2017، بعد مصادقة 50 دولة عليها، إلا أن مخاطر التلوث بالزئبق مازالت تهدد بحصد مزيد من الضحايا، خاصةً وأن هذا المعدن السام مازال يُستخدم على نطاق واسع في كثير من الأغراض الصناعية والطبية.
وبعد نحو 5 سنوات على بدء سريان الاتفاقية، وافقت أكثر من 100 دولة، بما فيها غالبية الدول العربية، على تعديل الاتفاقية، في 25 مارس 2022، بإضافة نص يدعو إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمنع استخدام حشوات الأسنان الزئبقية، المعروفة باسم «أملجم»، في علاج أسنان الأطفال أقل من 15 عاماً، والنساء الحوامل والمرضعات، وهو التعديل المعروف باسم «تعديل الأطفال»، الذي جاء بعد جهود شاقة بقيادة التحالف العالمي لطب أسنان بدون زئبق، ودخل حيز التنفيذ رسمياً اعتباراً من 28 سبتمبر 2023.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن التعرض للزئبق ومركباته المختلفة قد تكون له آثار خطيرة على الصحة العامة، بما في ذلك تلف الدماغ والجهاز العصبي، والإضرار بالكلى والجهاز الهضمي، مما دعا المنظمة الأممية إلى إطلاق مبادرة للتخلص من الزئبق بأجهزة القياس الطبية.
رعاية صحية بدون زئبق
تدعو مبادرة «الرعاية الصحية الخالية من الزئبق»، إلى التخلص التدريجي من موازين الحرارة وأجهزة قياس ضغط الدم المحتوية على الزئبق، عن طريق وقف تصنيع واستيراد وتصدير هذه الأجهزة، ودعم نشر بدائل خالية من الزئبق دقيقة، وبأسعار معقولة وأكثر أمناً، وبينما تسمح اتفاقية ميناماتا للبلدان بالاستمرار في استخدام الزئبق في أجهزة القياس الطبية حتى عام 2030، في ظل ظروف خاصة معينة، تعتقد منظمة الصحة العالمية أن العواقب الصحية السلبية المحتملة للزئبق كبيرة، بحيث يمكن للبلدان أن تسعى إلى تحقيق الهدف الرئيسي حتى قبل الموعد المحدد.
وتحذر إدارة الغذاء والدواء الأمريكية من أن استخدام الزئبق في حشوات الأسنان الفضية «أملجم»، قد يتسبب في أضرار صحية بالغة للأشخاص الذين يعانون من فرط الحساسية للزئبق، بما في ذلك النساء الحوامل، والنساء اللواتي يخططن للحمل، والنساء المرضعات، والأطفال دون سن السادسة، ويقول شارلي براون، رئيس التحالف العالمي لطب أسنان بدون زئبق، إن أطباء الأسنان بدأوا في استخدام الحشوات الفضية، التي تحتوي على الزئبق، منذ أكثر من 200 سنة، ويحتوي هذا النوع من الحشوات على عنصر الزئبق بنسبة تصل إلى 50%، بينما النصف الثاني عبارة عن خليط من مكونات وعناصر أخرى، منها الفضة والنحاس والقصدير.
يوضح براون، في تصريحات لـ«جسور 2030»، أن تأسيس التحالف العالمي لطب أسنان بدون زئبق، جاء كمحاولة للفت أنظار العالم إلى المخاطر الناجمة عن استخدام حشوات الأملجم، مشيراً إلى أن التحالف يحظى باعتراف دولي كأحد الأطراف الفاعلة في اتفاقية ميناماتا، كما بدأ في إطلاق شبكات إقليمية في مختلف أنحاء العالم، من ضمنها المنطقة العربية.
شبكة عربية لمنع حشوات الزئبق
وفي خطوة على الطريق الصحيح، نحو الالتزام باتفاقية ميناماتا، لحماية صحة الإنسان والبيئة، وكذلك للالتزام بـ«تعديل الأطفال»، بمنع استخدام حشوات الزئبق للأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، قادت الشبكة العربية للبيئة والتنمية «رائد»، إضافة إلى المركز العربي لصحة البيئة، وبدعم من التحالف العالمي لطب أسنان بدون زئبق، جهود إطلاق أول شبكة عربية لمنع استخدام الزئبق في علاج الأسنان.
يؤكد الدكتور عماد الدين عدلي، المنسق العام لشبكة «رائد»، أن هذه الشبكة هي الأولى من نوعها في المنطقة العربية، للتحذير من مخاطر الزئبق، ومنع استخدام حشوات “أملجم” بالنسبة للفئات الثلاثة التي تحددها اتفاقية ميناماتا، وهم النساء الحوامل والمرضعات والأطفال، ويحذر «عدلي»، في تصريحاته لـ«جسور 2030»، من أن التعرض لمركبات الزئبق، حتى الكميات الصغيرة منها، قد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة لبعض الفئات المعرضة للخطر، مشيراً إلى أن منظمة الصحة العالمية تصنف الزئبق ضمن أكثر 10 مواد كيميائية تؤثر على الصحة العامة للبشر.
تضم قائمة المنظمات المشاركة في إطلاق الشبكة العربية لمنع استخدام الزئبق في علاج الأسنان، كلاً من الشبكة العربية للبيئة والتنمية «رائد»، ومنظمة الأرض والإنسان لدعم التنمية في المملكة الأردنية، وجمعية النادي المغربي للبيئة والتنمية، ومؤسسة إبداع للبيئة والتنمية المستدامة من اليمن، ومركز ياس للبيئة والصحة من سلطنة عُمان، وجمعية التربية البيئية للأجيال القادمة من تونس.